تقليديًا، كانت ممارسة الوساطة شائعة جدًا في الشرق الأوسط، وخاصة في لبنان؛ فكلما كان شخصان في حالة نزاع، كانا دائمًا ما يلجآن إلى مساعدة زعماء عشيرتهما أو زعمائهما الدينيين لحل خلافاتهما. هذا اللجوء، المعروف باسم "المصلى" أو "آل سوليه", أي., التوفيق, كانت ممارسة شائعة قبل إنشاء النظام القضائي اللبناني.
في عام 1933، في قانون أصول المحاكمات المدنية السابق، شرّع المشرّع اللبناني عملية "مصالحة" إلى جانب المحكمة الابتدائية من خلال استحداث منصب قاضي الصلح المعروف باسم "قاضي الصلح" الذي كانت له ولاية محددة للتوفيق بين الأطراف في الدعوى قبل الفصل فيها من قبل المحكمة المختصة. إذا كان "قاضي الصلح" نجح في التوفيق بين المتنازعين، كان يوثق شروط الصلح في محاضر المحاضر القضائية، والتي بمجرد التصديق عليها من القاضي المحكوم له تعتبر حكماً نهائياً واجب النفاذ.
بعد سنوات، ألغى قانون الإجراءات المدنية اللبناني الجديد دور "قاضي الصلح" وتفويضه إلى قاضي الحكم الذي ينظر في القضية بما يتفق تمامًا مع القوانين النافذة. وقد أدى تطور المجتمع وتقدمه، إلى جانب تعقيد العلاقات الإنسانية، إلى أن أصبح النظام القضائي الصارم أصلاً غير مفضل لدى الأفراد الذين سعوا إلى بدائل أسرع وأقل تكلفة لحل النزاعات.
من وجهة نظرهم، كان الأفراد يحتاجون إلى نهج مختلف: أرادوا أن يُستمع إليهم وأن يكون لهم إجراءات طوعية إضافية تسمح لهم بحل نزاعاتهم بأنفسهم في إطار عملية إنسانية يسهل الوصول إليها. لقد رأوا أن النظام القضائي غير مُرضٍ والطبيعة التعجيزية لقرار التحكيم المعقد بسبب قواعد وإجراءات التحكيم.
وقد استغرق الأمر عقودًا حتى تحققت تطلعاتهم باعتماد قانون الوساطة القضائية في 10 أكتوبر 2018. عرّف القانون عملية الوساطة كبديل لحل النزاعات. في المادة #1، الوساطة هي العملية التي تمكّن الأطراف المتنازعة من الاستعانة بشخص ثالث محايد لمساعدتهم على التواصل وتشجيعهم على التفاوض حتى يتمكنوا من حل نزاعهم. الوساطة القضائية هي العملية التي يحيل القاضي المتنازعين في أي وقت أثناء إجراءات المحكمة، بناءً على موافقتهم، إلى وسيط مختار يساعدهم على التواصل ويساعدهم في إيجاد حل لنزاعهم. أوقفت الأزمات اللبنانية المتعددة العمل على مراسيم التنفيذ، مما أدى إلى توقف استخدام الوساطة القضائية.
وبعد مرور أربع سنوات، كانت اتفاقية سنغافورة دافعًا مشجعًا للبرلمان اللبناني لاعتماد قانون الوساطة التقليدي #286/2022، الصادر في أبريل 2022. ويمنح هذا القانون الجديد الحق لأي طرف في نزاع فعلي أو مستقبلي أن يتفق على تعيين وسيط محترف ومستقل ونزيه ومحايد لمساعدته على التواصل وإيجاد حل لنزاعه.
إن الوساطة القضائية والتقليدية في حاجة ماسة اليوم إلى الخروج إلى النور وتقديمها من خلال حملات التوعية كبديل متاح لتسوية المنازعات في بلد يمزقه الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي حيث النظام القضائي متوقف مع الإضرابات المتكررة للقضاة وكتاب المحاكم وحتى المحامين.
بالعودة إلى جذورها، يجب اعتبار الوساطة "نوعًا" متطورًا من "قاضي الصلح". وأنا شخصياً أرى وأدعو جميع المعنيين بحل النزاعات، سواء كانوا محامين ومستشارين قانونيين وموثقين ورؤساء بلديات ومسؤولين بلديات ومستشارين وهيئات دينية - وغيرهم - إلى توحيد الجهود في تعزيز فوائد الوساطة.
تعاني بلادنا، وأعتقد أن الإسهامات المهنية للوسطاء ستسهم بشكل مباشر في تحويل وحل النزاعات، مما يؤدي إلى توافق مجتمعي سلمي يجمع الناس ويلغي التفرقة.
دعونا نأمل أن يكون لأرض الأرز غد أكثر إشراقاً يتآلف فيه جميع اللبنانيين ويعيشون في كنف الحشمة بعيداً عن أعباء الأزمات التي تخلق يوماً بعد يوم صراعات متصاعدة.
المؤلف
ربيع صفير
المحامي والوسيط القانوني
بيروت-لبنان